الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.الجملة الرابعة في حمل الكتاب وتأديته: وهو من جملة الأمانات الداخلة في عموم قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. وقد روي عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه قال: من أعظم الأمانة أداء الكتاب إلى أهله. قال محمد بن عمر المدائني: حمل الكتاب أمانةٌ، وترك إيصاله خيانة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بلغ كتاب غازٍ في سبيل الله إلى أهله أو كتاب أهله إليه، كان له بكل حرفٍ عتق رقبةٍ وأعطاه الله كتابه بيمينه وكتب له براءةْ من النار» وقد نطق القرآن الكريم بتأدية الهدهد كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس، حيث قال حكايةً عن سليمان: {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم} إلى أن قال: {قالت يا أيها الملأ إني ألقي كتابٌ كريمٌ}.وقد وردت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبعث كتبه مع رسله إلى الملوك، بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس، وبعث دحية الكبي إلى قيصر ملك الروم، وبعث حاطب بن أبي بلعتة إلى المقوقس، صاحب مصر، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى الضحاك ملك الحبشة، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وبعث عمرو بن العاص إلى عبد وجيفرٍ ابني الجلندي ملكي عمان. قال ابن الجوزي: وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري.واعلم أنه يجب أن يكون حامل الكتاب المؤدى له عن الملك ونحوه وافر العقل، شديد الشكيمة في الجواب، طلق اللسان في المحاورة، فإنه لسان ملكه، وترجمان مرسله، وربما سأله المكتوب إليه عن شيءٍ أو أورد عليه اعتراضاً فيكون بصدد إجابته. وقد قيل: إنه يستدل على عقل الرجل بكتابه ورسوله. ومن غريب ما يروى في ذلك ما ذكره ابن عبد الحكم، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وبلغه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: ما منعه أن يدعو علي فيسلط علي؟ قال له حاطبٌ: ما منع عيسى أن يدعو على من أبي عليه أن يفعل ويفعل؟ فوجم ساعة ثم استعادها، فأعادها عليه حاطبٌ، فسكت. ويروى أنه حين سأله عن أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، في حرب قومه، وذكر له أن الحرب تكون بينهم سجالاً، تارةً له وتارةً عليه، قال له المقوقس: النبي يغلب! فقال له حاطب: فالإله يصلب! يشير بذلك إلى ما تزعمه النصارى من أن المسيح عليه السلام صلب مع دعواهم فيه أنه إلهٌ.وذكر السهيلي أن دحية الكلبي حين دخل على قيصر بكتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قال له دحية: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال نعم، قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح في بطن أمه. فألزمه من صلاة المسيح أنه عبد الله تعالى، وضمن ذلك بيتاً من أبيات له فقال: [متقارب]ويحكى أن بعض ملوك الروم كتب إلى خليفة زمانه يطلب منه من يناظر علماء النصرانية عنده فإن قطعهم أسلموا، فوجه إليه بالقاضي أبي بكر بن الطيب المالكي، وكان من أئمة علماء زمانه، فلما حضر المجلس واجتمع لديه علماء النصارى، قال له بعضهم: إن معتقدكم أن الأنبياء عليهم السلام معصومون في الفراش، وقد رميت عائشة بما رميت به. فإن كان ما رميت به حقاً، كان ناقضاً لأصلكم الذي أصلتموه في عصمة الأنبياء في الفراش، وإن كان غير حقٍّ كان مؤثراً في إيمان من وقع منه. فقال القاضي أبو بكرٍ: إمرأتان حصينتان رميتا بالفرية، إحداهما لها زوجٌ ولا ولد لها، والأخرى لها ولدٌ ولا زوج لها، يشير بالأولى إلى عائشة رضي الله عنها، وبالثانية إلى مريم عليها السلام، فسجدوا له على عادة تحيتهم في ذلك، إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى كثرةً.فإذا كان الرسول متمكناً من عقله، عالماً بما يأتي وما يذر، كفى ملكه مؤونة غيبته، وأجاب عن كل ما يسأل عنه، وإذا كان بخلاف ذلك انعكست القضية، ورجع على مرسله بالوبال. ثم إن اقتضى رأي الملك زيادةً في الرسالة على الرسول الواحد فعل، ليتعاونا على ما فيه المصلحة، ويتشاورا فيما يفعلان، فقد ذكر السهيلي أن جبراً مولى أبي ذر الغفاري كان رسولاً مع حاطب ابن أبي بلتعة إلى المقوقس. وإن اقتضى الحال إرسال أكثر من اثنين أيضاً فعل، فقد ذكر ابن الجوزي أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، في خلافته بعث إلى قيصر ثلاثة رسل، وهم: هشام بن العاص، ونعيم بن عبد الله، ورجل آخر.ومما يجب التنبيه عليه أنه يحرم على حامل الكتاب النظر فيه، والاطلاع على ما تضمنه. قال محمد بن عمر المدائني: في فض الكتاب إثمٌ وسوء أدب.وساق بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اطلع في كتاب أخيه بغير إذنه، أطلعه طلعةً في النار» .الجملة الخامسة في فض الكتاب وقراءته: أما فضه فالمراد فك ختمه وفتحه، والفض في أصل اللغة الكسر والتفريق، ومن الأول ما ثبت في الصحيح من قول القائلة لابن عمها في قصة الثلاثة الذين دعوا الله بأحب أعمالهم: إتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. تريد إزالة بكارتها. ومن الثاني {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} وقد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية أن الرسول أو البريدي الواصل إلى باب السلطان يقدمه الدوادار إلى السلطان، ثم يتنأول الكتاب منه ويمسح به وجه من حضر على يده، ثم يدفعه إلى السلطان فيفض ختامه، ثم يتنأوله الدوادار من السلطان ويدفعه إلى كاتب السر، فيقرأه على السلطان.واعلم أن لفض الكتاب حالتين:الحالة الأولى أن يكون مختوماً باللصاق بالنشا على طريقة المشارقة وأهل الديار المصرية، فيشيق ظاهره على القرب من محل اللصاق بسكين ثم يفتح.الحالة الثانية أن يكون مخزوماً مسمراً بدسرة من الورق على عادة المغاربة ومن جرى مجراهم، فيرفع الختم الملصق عليه من الشمع، وتقلع الدسرة ويفتح الكتاب.وأما قراءة الكتب فإنه يجب أن يكون من يقرأ الكتب على الملوك ومن في معناهم ماهراً في القراءة، فصيح اللسان في النطق، رقيق حاشية اللسان في حسن الإيراد، قوي الملكة في استخراج الخطوط المختلفة، سريع الفهم في إدراك المعاني الخفية، وأن تكون قراءته على رئيسه من سلطان إلى غيره بحسب ما يؤثر ملكه أو أميره سماعه من السرعة والبطء، وأن يكون ذلك بصوتٍ غير خفي بحيث يعسر سماعه، ولا مرتفع بحيث يعد صاحبه خارجاً عن أدب المخاطبة للأكابر، وأن يقرب لمن يقرأ عليه فهم المقاصد التي اعتاضت عليه إذا سأله عنها، أو غلب على ظنه أنها لم تصل إلى فهمه، بحسن إيراد، وتلطيف عبارة يحسن موقعها في النفوس ويجمل وقعها في الأذهان..الجملة السادسة في كراهة طرح الكتاب بعد تخزيقه وهو فضه وحفظه بعد ذلك في الإضبارة: أما كراهة طرحه فقد قال محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة: كرهوا تخزيق الرسائل ورميها في الطرق والمزابل، خوفاً على اسم الله تعالى أن يداس، أو تلحقه النجاسة والأدناس. قال: وفي رفع ما طرح من الكتاب أعظم الرغائب وأجل الثواب، وساق بسنده إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من كتاب يلقى ببقعةٍ من الأرض فيه اسم من أسماء الله إلا بعث الله إليه سبعين ألف ملكٍ يحفونه بأجنحتهم ويقدسونه، حتى يبعث الله إليه ولياً من أوليائه فيرفعه من الأرض. ومن رفع كتاباً من الأرض فيه اسمٌ من أسماء الله تعالى، رفع الله اسمه في عليين وخفف عن والديه العذاب وإن كانا مشركين» ويروى: من رفع قرطاساً من الأرض فيه مكتوبٌ بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً له أن يداس، أدخله الله الجنة وشفعه في عشرين من أهل بيته كلهم قد وجب له النار.وأما حفظه في الإضبارة فهو أمر مطلوب، والإضبارة عبارةٌ عن ورقةٍ تلف على جملة من الكتب قد جمعت في داخلها ويلصق طرفها بالنشا. والقاعدة فيها أن تلوى الكسرة من أسفلها، وإن طال بعضها في طيه وقصر بعض جعل التفاوت في الطول والقصر من أعلاها. قال في صناعة الكتاب: ومعناها الجمع، لأنها يجمع بعضها إلى بعض. ومنه قيل: تضبر القوم إذا تجمعوا، ورجل مضبر الخلق أي مجتمعه، وناقة مضبرة ومضبورة، وضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب. ويقال للإضبارة أيضاً إضامةٌ بكسر الهمزة وتشديد الميم لضم بعضها إلى بعض، والمعنى فيها صيانة الكتب وحفظها عن الضياع. وقد جرت عادة كتاب ديوان الإنشاء بالديار المصرية أن يجعل لكل شهر إضبارةٌ تجمع فيها الكتب الواردة على أبواب السلطان من أهل المملكة وغيرهم، ويكتب عليها شهر كذا. وقد سبق القول في مقدمة الكتاب أن الديوان كان له في زمن الفاطميين كاتبٌ يكتب الكتب الواصلة ويبسط عليها جرائد، كما يكتب الكتب الصادرة عن الأبواب السلطانية ويبسط عليها جرائد، وأن ذلك بطل في زماننا وصار الأمر قاصراً فيها على حفظ الكتب في الإضبارات، متى احتيج إلى الكشف عن كتاب منها، أخذ بالحدس أنه ورد في السنة الفلانية، وتكشف إضباراتها واحدةً بعد واحدة حتى يقع العثور عليه، ولا خفاء فيما في ذلك من المشقة، بخلاف ما إذا كان لها جرائد مبسوطة، فإنه سهل الكشف منها، ويستدل بتاريخه على إضبارته فتخرج ويقع الكشف منها، ولكن أهمل ذلك في جملة ما أهمل..الباب الثاني من المقالة الرابعة في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام وهلم جراً إلى زماننا: وفيه ثمانية فصول:.الفصل الأول في الكتب الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: وفيه ثلاثة أطراف:.الطرف الأول في ذكر ترتيب كتبه صلى الله عليه وسلم في الرسائل على سبيل الإجمال: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح اكثر كتبه بلفظ من محمد رسول الله إلى فلان وربما افتتحها بلفظ أما بعد وربما افتتحها بلفظ هذا كتابٌ وربما افتتحها بلفظ سلم أنت.وكان يصرح في الغالب باسم المكتوب إليه في أول المكاتبات، وربما اكتفى بشهرته. فإن كان المكتوب إليه ملكاً كتب بعد ذكره اسمه عظيم القوم الفلانيين وربما كتب ملك القوم الفلانيين وربما كتب صاحب مملكة كذا.وكان يعبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم في أثناء كتبه بلفظ الإفراد. مثل: أنا ولي وجاءني وفد علي وما أشبه ذلك، وربما أتى بلفظ الجمع مثل بلغنا وجاءنا ونحو ذلك.وكان يخاطب المكتوب إليه عند الإفراد بكاف الخطاب. مثل: لك وعليك وتاء المخاطب. مثل: أنت قلت كذا وفعلت كذا. وعند التثنية بلفظها مثل: أنتما ولكما وعليكما. وعند الجمع بلفظه. مثل: أنتم ولكم وعليكم وما أشبه ذلك.وكان يأتي في صدور كتبه بالسلام. فيقول في خطاب المسلم سلامٌ عليك وربما قال: السلام على من آمن بالله ورسوله وفي خطاب الكافر: سلامٌ على من اتبع الهدى وربما أسقط السلام من صدر الكتاب.وكان يأتي في صدور الكتب بالتحميد بعد السلام. فيقول: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وربما تركه، وقد يأتي بعد التحميد بالتشهد وقد لا يأتي به.وكان يتخلص من صدر الكتاب إلى المقصود تارةً بأما بعد وتارة بغيرها.وكان يختم كتبه بالسلام تارة، فيقول في خطاب المسلم: والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وربما اقتصر على السلام. ويقول في خطاب الكافر: والسلام على من اتبع الهدى وربما أسقط السلام من آخر كتبه.أما عنونة كتبه، صلى الله عليه وسلم، فلم أقف فيها على نص صريح، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعنون كتبه بلفظ: من محمد رسول الله إلى فلان على نحو ما في الصدر، وتكون كتابته من محمد رسول الله عن يمين الكتاب، وإلى فلان عن يساره، وعليه يدل ما تقدم من كلام صاحب مواد البيان في الأصل الثاني عشر من أصول المكاتبات حيث ذكر في الكلام على العنوان أن الأصل أن يبتدأ باسم المكتوب عنه ويثنى باسم المكتوب إليه، ثم قال: وعلى هذا كانت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم..الطرف الثاني في كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الإسلام: كتب النبي إلى اهل الاسلام وهو على ثلاثة أساليب:الأسلوب الأول: أن يفتتح الكتاب بلفظ من محمد رسول الله إلى فلان:فمن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد، في جواب كتابه إليه صلى الله عليه وسلم بإسلام بني الحارث وهو على ما ذكره ابن إسحاق في سيرته: من محمدٍ رسول الله إلى خالد بن الوليد: «سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك، يخبرني أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم، وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين من جهة الفرس، في جواب كتابه إليه صلى الله عليه وسلم. ونسخته على ما ذكره السهيلي في الروض الأنف: من محمدٍ رسول الله إلى المنذر بن ساوى.«سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل لهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك، ومن أقام على مجوسيته فعليه الجزية».ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى فروة بن عمرو الجذامي، ونسخته على ما ذكره ابن الجوزي في كتاب الوفاء: «من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو.أما بعد، فقد قدم علينا رسولك، وبلغ ما أرسلت به، وخبر عما قبلكم خيراً، وأتانا بإسلامك وأن الله هداك بهداه».ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى طهفة النهدي وقومه. ونسخته فيما حكاه ابن الأثير في المثل السائر: «من محمدٍ رسول الله إلى بني نهدٍ.السلام على من آمن بالله ورسوله. لكم يا بني نهدٍ في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحس دركم ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق. من أقر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة».وهذا الكتاب مما يحتاج إلى شرح غريبه ليفهم. فالوظيفة النصاب في الزكاة وأصله الشيء الراتب. والفريضة الهرمة المسنة، والمراد أنها لا تؤخذ منهم في الزكاة بل تكون لهم. والفريش بالفاء والشين المعجمة ما انبسط من النبات وفرش على وجه الأرض ولم يقم على ساقٍ، وقد يطلق على الفرس إذا حمل عليها بعد النتاج أيضاً. وذو العنان الركوب الفرس الذلول، والفلو المهر الصغير وقيل الفطيم من جميع أولاد الحافر. والضبيس بالضاد المعجمة والباء الموحدة والسين المهملة العسير الصعب الذي لم يرض. والسرح السارحة، وهي المواشي، والمعنى أنها لا تمنع من المرعى. والعضد القطع. والطلح شجرٌ عظام من شجر العضاه. والدر اللبن، والمراد ذوات الدر من المواشي، أراد أنها لا تحشر إلى المصدق وتمنع المرعى إلى أن تجتمع الماشية ثم تعد لما في ذلك من الإضرار. والإماق مخفف، من أمأق الرجل إذا صار ذا مأقة، وهي الحمية والأنفة، وقيل مأخوذ من الموق وهو الحمق، والمراد إضمار النكث والغدر إو إضمار الكفر. والرباق بالراء المهملة والباء الموحدة والقاف جمع ربقة، وهي في الأصل اسمٌ لعروة تجعل في الحبل وتكون في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، والمراد هنا نقض العهد واستعار الأكل لذلك، لأن البهيمة إذا أكلت الربقة خلصت من الشد. والربوة بكسر الراء، الزيادة، والمراد هنا الزيادة في الفريضة الواجبة عليه كالعقوبة له.ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر دومة فيما ذكره أبو عبيدة، وهو: من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن. ولكم الضامنة من النخل. والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق.وهذا الكتاب أيضاً مما يحتاج إلى المعرفة غريبه: فالأنداد جمع ند بكسر النون وهو ضد الشيء الذي يخالفه في أموره، ويناده أي يخالفه، والمراد ما كانوا يتخذونه آلهةً من دون الله تعالى. والأصنام جمع صنم: وهو ما اتخذ إلها من دون الله، وقيل: ما كان له جسمٌ أو صورةٌ، فإن لم يكن له جسمٌ ولا صورةٌ فهو وثنٌ. والأكناف بالنون جمع كنف بالتحريك وهو الجانب والناحية. والضاحية بالضاد المعجمة والحاء المهملة الناحية البارزة التي لا حائل دونها، والمراد هنا أطراف الأرض، والضحل بفتح الضاد المعجمة وسكون الحاء المهملة القليل من الماء، وقيل الماء القريب من المكان، وبالتحريك مكان الضحل، والبور الأرض التي لم تزرع، وهو بالفتح مصدرٌ وصف به، وبالضم جمع بوار، وهو الأرض الخراب التي لم تزرع. والمعامي المجهولة من الأرض التي ليس فيها أثر عمارةٍ، واحدها معمًى. وأغفال الأرض بالغين المعجمة والفاء الأرض التي ليس فيها أثرٌ يعرف كأنها مغفول عنها. والحلقة بسكون اللام السلاح عاماً، وقيل الدروع خاصاً، والسلاح ما أعد للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحاً. والضامنة من النخل بالضاد المعجمة والنون ما كان داخلاً في العمارة من النخيل وتضمنته أمصارهم وقراهم، وقيل سميت ضامنةً لأن أربابها ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمانٍ كعيشةٍ راضية بمعنى ذات رضاً. والمعين من المعمور الماء الذي ينبع من العين في العامر من الأرض. وقوله: لا تعدل سارحتكم بالذال المعجمة، أي لا تصرف ماشيتكم وتمال عن الرعي ولا تمنع. وقوله: ولا تعد فاردتكم أي لا تضم إلى غيرها وتحشر إلى الصدقة حتى تعد مع غيرها وتحسب. والفاردة الزائدة على الفريضة. وقوله: ولا يحظر عليكم النبات بالظاء المعجمة، أي لا تمنعون من الزرع والمرعى حيث شئتم، والحظر المنع.ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى وائل بن حجر وأهل حضرموت، وهو: من محمدٍ رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. على التيعة الشاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس، لا خلاط ولا وراط ولا شناق ولا شغار، ومن أجبى فقد أربى وكل مسكرٍ حرامٌ.وذكر القاضي عياضٌ في الشفاء أن كتابه لهم: إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشايب. وفي التيعة شاةٌ، لا مقورة الألياط، ولا ضناك، وأنطوا الثبجة، وفي السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائةً واستوفضوه عاماً، ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم، ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرامٌ، ووائل بن حجر يترفل على الأقيال.وهذا الكتاب في معنى ما تقدم من الاحتياج إلى شرح غريبه. الأقبال بالقاف والياء المثناة تحت جمع قيل: وهو الملك. والعباهلة الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه، وحضرموت بلدةٌ في اليمن في أقصاها، وقيل هي أحد مخاليفها. والتيعة بالمثناة من فوق ثم المثناة من تحت والعين المهملة اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من الحيوان، كالخمس من الإبل والأربعين من الغنم. قال ابن الأثير: وكأنها الجملة التي للسعاة عليها سبيلٌ من تاع يتيع إذا ذهب إليه. والتيمة بالكسر الشاة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى، وقيل هي الشاة التي تكون لصاحبها في منزله يحلبها وليست بسائمةٍ، وهي بمعنى الداجن، والسيوب الركاز أخذاً من السيب وهو العطاء، قاله أبو عبيدة، وقيل هي عروق الذهب والفضة التي تسيب في المعدن بمعنى تتلون وتظهر. وقال الزمخشري: هي جمع سيب، يريد به المال المدفون في الجاهلية أو المعدن لأنه من فضل الله تعالى لمن أصابه. والخلاط بالكسر مصدر خالط، يقال: خالطه يخالطه خلاطاً ومخالطةً، والمراد أن يخلط الرجل إبله بإبل غيره أو بقره أو غنمه ليمنع حق الله تعالى منها، ويبخس المصدق فيما يجب له. والوراط بالكسر أيضاً أن تجعل الغنم في وهدة من الأرض لتخفى على المصدق، مأخوذٌ من الورطة وهي الهوة من الأرض. والشناق بكسر الشين المشاركة في الشنق بفتح النون، وهو ما بين الفريضتين من كل ما تجب فيه الزكاة، وهو ما زاد من الإبل على الخمس إلى التسع، وما زاد على العشر إلى أربع عشرة، والمراد أن لا تؤخذ الزيادة على الفريضة. قال ابن الأثير: ويجوز أن يكون معناه المشاركة في الشنق والشنقين، وهو بمعنى الخلاط المتقدم ذكره، لكن حمله على الأول أولى، لتعدد المعنى. والشغار بكسر الشين وبالغين المعجمة نكاحٌ معروف في الجاهلية، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوجه بنته أو أخته، ويكون بضع كل منهما صداقاً للأخرى. والأرواع جمع رائع: وهم الحسان الوجوه من الناس. وقيل: الذين يروعون الناس أي يفزعونهم بشدة الهيبة. قال ابن الأثير: والأول أوجه. وقوله: ومن أجبى هو بالجيم والباء الموحدة: وهو بيع الزرع قبل بدو صلاحه. وقيل هو أن يغيب إبله عن المصدق أخذاً من أجبأته إذا واريته. وقيل هو أن يبيع من الرجل سلعةً بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثمن الذي باعها به، ومعنى أربى وقع في الربا. والمشايب السادة الرؤوس الزهر الألوان الحسان المناظر واحدها مشبوب. والمقورة الألياط المسترخية الجلود لهزالها والاقورار الاسترخاء في الجلود. والألياط جمع ليط: وهو قشر العود، شبه به الجلد لالتزاقه باللحم. والضناك بالكسر الكثير اللحم، ويقال الذكر والأنثى فيه سواء، والمراد أنه لا تؤخذ المفرطة في السمن كما لا تؤخذ الهزيلة. وقوله: وأنطوا هو بلغة أهل اليمن بمعنى أعطوا، خاطبهم صلى الله عليه وسلم بلغتهم. والثبجة بثاء مثلثة بعدها باء موحدة ثم جيم هي الوسط من المال التي ليست من خياره ولا رذالته، أخذاً من ثبجة الناقة وهو ما بين الكاهل إلى الظهر.وقوله مم بكر جرى فيه على لغة أهل اليمن حيث يبدلون لام التعريف ميماً. قال ابن الأثير: وعلى هذا فتكون راء بكر مكسورةً من غير تنوين لأن أصله من البكر، فلما أبدلت الألف واللام ميماً بقيت الحركة بحالها، ويكون قد استعمل البكر موضع الأبكار. قال: والأشبه أن تكون بكرٌ منونةً، وقد أبدلت نون من ميماً، لأن النون الساكنة إذا كان بعدها باء قلبت في اللفظ ميماً نحو عنبر ومنبر، ويكون التقدير ومن زنى من بكرٍ. وقوله فاصقعوه هو بالصاد المهملة والقاف أي اضربوه، وأصل الصقع الضرب على الرأس، وقيل الضرب ببطن الكف. وقوله: واستوفضوه هو بالفاء والضاد المعجمة أي انفوه، أخذاً من قولهم: استوفضت الإبل إذا تفرقت في رعيها وقوله: فضرجوه بالضاد المعجمة والجيم أي أدموه بالضرب، ويطلق الضرج على الشق أيضاً. والأضاميم بالضاد المعجمة الحجارة واحدها إضمامةٌ، والمراد ارجموه بالحجارة. والتوصيم بالصاد المهملة الفترة والتواني، أي لا تفتروا في إقامة الحدود ولا تتوانوا فيها. وقوله: ولا غمة في فرائض الله أصل الغمة الستر، أي لا تستر فرائض الله ولا تخفى، بل تظهر ويجهر بها وتعلن. وقوله: يترفل أي يسود ويترأس، استعارة من ترفيل الثوب وهو إسباغه وإرساله، والأقيال الملوك وقد تقدم الكلام عليه.الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ هذا كتاب ويذكر المقصد فيما بعد وهو قليل الوقوع في المكاتبات:ومن ذلك كتابة صلى الله عليه وسلم لقبيلة همدان من اليمن، فيما ذكره ابن هشام وهو: هذا كتابٌ من محمدٍ رسول الله لمخلاف خارفٍ وأهل الجناب الهضب وحقاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار، لمالك بن نمطٍ ولمن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عافيها، لكم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدكم المهاجرون والأنصار.وذكر القاضي عياضٌ في الشفاء أن في كتابه إليهم: إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها، تأكلون علافها وترعون عفاءها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري، وعليهم فيها الصالغ والقارح.وهذا من نسبة ما تقدم مما يحتاج إلى شرح غريبه: فالفراع بالكسر جمع فرعة، وهو ما ارتفع من الأرض. والوهاط جمع وهطة، وهي ما اطمأن من الأرض. والعلاف بالكسر جمع علف كجبل وجبال، والمراد ما تعتلفه الدواب من نبات الأرض. والعزاز ما صلب من الأرض واشتد وخشن، ويكون ذلك في أطرافها. والعفاء العافي وهو ما ليس لأحد فيه ملكٌ، من قولهم: عفا الأثر إذا درس. والدفء نتاج الإبل وما ينتفع به منها، سمي دفئاً لأنه يتخذ من أوبارها ما يستدفأ به، والمراد هنا الإبل والغنم. والصرام النخل وأصله قطع الثمرة. والثلب من ذكور الإبل الذي هرم وتكسرت أسنانه. والناب المسنة من إناثها. والفصيل من أولاد الإبل الذي فصل عن أمه من الرضاع. والفارض المسن من الإبل، والمراد أنه لا يؤخذ منهم في الزكاة. والداجن الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم والكبش الحوري منسوب إلى الحور، وهي جلود تتخذ من جلود الضأن، وقيل: هو ما دبغ من الجلود بغير القرظ. والصالغ بالصاد المهملة والغين المعجمة، وهو من البقر والغنم الذي كمل وانتهى، ويكون ذلك في السنة السادسة، ويقال: بالسين بدل الصاد. والقارح الفرس الذي دخل في السنة الخامسة.الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بلفظ سلم أنت:فمن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى. وهو فيما ذكره أبو عبيدة في كتاب الأموال: سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.أما بعد، فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمة الرسول، فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمنٌ، ومن أبى فإن عليه الجزية.
|